مقابر القاهرة
 
Notifications
Clear all

مقابر القاهرة

1 Posts
1 Users
0 Reactions
1 Views
(@roknnagd)
Trusted Member
Joined: 9 months ago
Posts: 28
Topic starter  

بين المقدس والمهمل: قراءة أنثروبولوجية في تحوّل مقابر القاهرة من فضاءات دينية إلى أحياء سكنية غير رسمية

 

في قلب القاهرة، حيث تتداخل أصوات الحياة اليومية مع همسات الصلاة على الأموات، تتحول المقابر من مجرد أماكن للدفن إلى فضاءات حية، تنبض بالحياة، وتُمارس فيها طقوس البقاء أكثر من طقوس التأبين. ففي “مدن الموتى” التاريخية، يعيش الأحياء بين القبور، يبنون منازلهم فوقها، ويعلقون غسيلهم على أسوارها، ويبيعون الخبز والشاي عند مداخلها. أما في مقابر جهاز القاهرة الجديدة ، فقد اتخذ التحول شكلاً مختلفاً: لم يعد السؤال “كيف نعيش مع الموتى؟” بل “كيف نشتري لهم مساحة كريمة في عالم يزداد فيه الثمن أكثر من المساحة؟”.

 

هذا التحول الجذري في وظيفة ودلالة المقابر يطرح أسئلة أنثروبولوجية عميقة: ما الذي يعنيه أن يتحول المكان المخصص للنهاية إلى نقطة انطلاق للحياة اليومية؟ وكيف تعيد المجتمعات تعريف المقدس حين يصبح جزءاً من الاقتصاد والمعيشة؟

 

في القاهرة القديمة، لم يكن التواجد البشري داخل المقابر اختياراً، بل ضرورة ناتجة عن أزمة سكن متفاقمة. أما في القاهرة الجديدة، فالمشهد مختلف تماماً. هنا، المقابر ليست ملجأً للفقراء، بل استثمارٌ عقاريٌّ واجتماعيٌّ للأسر المتوسطة والمرتفعة الدخل. فبسبب ارتفاع الأسعار الجنوني في مناطق مثل التجمع الخامس ومصر الجديدة، أصبحت مقابر للبيع بمحافظة القاهرة سلعة نادرة يُصارع عليها المواطنون، ليس فقط لكرامة موتاهم، بل لضمان مكان آمن ومرخص في ظل فوضى السوق السوداء واحتكار السماسرة.

 

وقد حاولت الدولة، ممثلة في جهاز القاهرة الجديدة، تنظيم هذا السوق عبر نظام القرعة العلنية، الذي يشترط على المتقدم أن يكون مواطناً مصرياً، لا يقل عمره عن 21 سنة، وغير مالك لأي مقبرة سابقة – حتى لأفراد أسرته. هذه الشروط، رغم عقلانيتها الظاهرية، تكشف عن توتر عميق: فالدولة تحاول الحفاظ على “طابع المقبرة” كفضاء مقدس وغير قابل للتداول، بينما المواطن ينظر إليها كأصل عقاري يجب توريثه أو حتى بيعه في أوقات الحاجة – وهو ما يُمنع قانونياً، لكنه يحدث فعلياً في الخفاء.

 

من المفارقات المثيرة أن مقابر للبيع اليوم – كما تقدمها شركات متخصصة مثل “الرحمن الرحيم” – لم تعد مجرد حفرة في الأرض، بل “وحدات متكاملة” بمواصفات فاخرة: أسوار عالية، كاميرات مراقبة، حراسة خاصة، تشطيبات رخامية، وأنظمة تقسيط تصل إلى سنوات. لقد أصبحت المقبرة “منتجاً” يُروّج له عبر كتالوجات وأسعار وعروض خصم، تماماً كشقق التمليك أو السيارات. هذا التسليع للموت – أو بالأحرى، لفضاء الموت – هو أحد أبرز مظاهر التحول الأنثروبولوجي الذي نعيشه.

 

لكن السؤال الأعمق يبقى: هل هذا التحول يُفقِد المقبرة قدسيتها؟ أم أنه يمنحها شكلاً جديداً من الاحترام، يتناسب مع زمن السرعة والقلق والاستثمار؟

 

ربما لا يوجد جواب واحد. ففي “مدن الموتى” القديمة، يحافظ السكان على طقوس الزيارة والذكرى، رغم ضجيج الحياة اليومية. وفي مقابر القاهرة الجديدة، يحرص المالكون على تشطيبات فاخرة وتصميمات إسلامية راقية، كتعبير عن الوفاء والبر حتى بعد الرحيل. في كلا الحالتين، يبدو أن الإنسان المصري – رغم كل التحولات – لا يزال يقاوم فكرة أن الموت مجرد نهاية. بل يصر على تحويله إلى فضاء مستمر من الذاكرة، والعلاقة، والانتماء – حتى لو كان ذلك على حساب إعادة تعريف المقدس نفسه.

 


   
Quote
Share: